عائدون الجزء 2



 و ما هي إلا لحظات و بدأت آلة الجرف في العمل..و أخذ يجرف التربة قليلا من هنا وقليلا من هناك..وفجأة حدث ما حذر منه آباؤنا فقد...

فقد توقفت آلة الجرف عندما حاولت الاستدارة واصبحت في مواجهة (قصر القايد) وكانت كماشة آلة الجرف في وضع الارتفاع ( الكماشة هي الصندوق الحديدي الذي في مقدمة آلة الجرف يرفع به التراب والصخور) وعبثا حاول السائق تشغيل آلة الجرف أو إنزال الكماشة.. ولكن دون جدوى وبدأت الاصوات ترتفع ( قال لكم السي حميد لاتفعلوا , بدأت اللعنة تحل بنا , اسكت يا جاهل هذا مجرد عطل ميكانيكي , أنتم جهلة ) وفي غفلة ووسط هذا الصراخ أسرع بعض الاطفال نحو آلة الجرف وأخذوا يركضون حولها مرورا من تحت الكماشة وفجأة سقطت الكماشة بدون مقدمات لتقضي على (اثنين من أطفال القرية) تعالى الصراخ وشقت صيحات النساء صفوف الرجال وأخذن في النحيب والبكاء فشاركناهم نحن الاطفال هذا البكاء ومرت لحظات لم نتبين خلالها مٓن الاطفال الذين قضوا في هذا الحادث المفجع ..حاول الرجال والشباب رفع الكماشة يدويا من على الاطفال دون جدوى.. حاول السائق رفعه ميكانيكيا دون جدوى ..آلة الرفع لا تعمل فاشترك الجميع رجال ونساء وشباب وصبيان في الحفر تحت آلة الجرف لاستخراج جثث الطفلين... عاد الآباء من السوق ..والقرية لا تزال مجتمعة فذهلوا من هول ما شاهدوه..ووسط هذه المـأساة وقف السي حميد يصرخ ويردد ( سيعودون سيعودون ) أخذ يرددها ثم سقط مغشيا عليه..

مرت القرية بأيام اكتست فيها السواد وخيم الحزن على الجميع وأُوصدت الأبواب وماتت الحركة في القرية ومنع الحديث عن هذا الموضوع بشكل صارم ...وبعد عدة أيام ..وفي وقت متأخر من الليل تعالت صرخات يتبعها صوت يردد (سيعودون..سيعودون)

ونظرا لهدوء الليل كان الصوت عاليا وواضح بشكل جلي.. أكاد أجزم بأن القرى المحيطة تسمعه فلا تلفزيونات ولا سيارات ولا ضوضاء.. ولشدة وضوح الصوت أدرك كل من في القرية أنه السي حميد.. .

كنا نحن الصبيان نلتف حول آباءنا بعد الصلاة عند المسجد.. وسمعناهم يطلبون من الفقيه أن يذهب معهم لمنزل السي حميد ليقرأ عليه القرآن واتفقوا على أن يذهب معهم بعد صلاة العصر....

بعد الصلاة اجتمع اغلب اهل القرية حول منزل السي حميد وتوزعوا حول المنزل وفوق السطح وفوق سور المنزل وقد كنت هناك فوق السور.. ورأيت الفقيه يدخل ومعه بعض رجال القرية.. ولم يلبثوا سوى دقائق وإدا بالسي حميد يصرخ من جديد (سيعودون..سيعودون) بعد لحظات خرج الجميع والتففنا حولهم لنسمع ما يقولون.. فسمعنا الفقيه يقول يا جماعة ليس عندي علم كافي ..و لا أستطيع التعامل معه.. ولكني سآتي لكم بمن لديه علم واسأل الله له الشفاء....

وفي نفس اليوم بعد صلاة المغرب سمعنا نفس الجملة تُردد (سيعودون..سيعودون) ولكن هذه المرة لم يكن صوت السي حميد بل صوت امرأة , من تكون يا ترى ..ثم علمنا في صلاة العشاء أنها الخالة حليمة أم أحد الاطفال الذين ماتوا في حادثة آلة الجرف ..ماذا أصابها يا ترى ....

بدأ يدور حديث في القرية حول انتقام سكان (قصر القايد ) ولكن السي حميد كان يعارض الإقتراب من قصرهم ..والخالة حليمة كانت أم أحد الضحايا فكيف يتم الانتقام منهم ؟ ..بعد يومين وفي صلاة المغرب صلى معنا في المسجد شخص غريب ليس من القرية كان كثيف اللحية.. وبعد الصلاة التف حوله القوم وسمعنا الرجال يرحبون به (يا مرحب يا شيخ أحمد , أهلا بك يا شيخنا , تفضل يا شيخنا ) رد التحية باختصار.. وقال هيا بنا ولنبدء ببيت المرأة ..أين زوجها.. وكان حاضرا معنا فقال تقدم أمامنا إلى المنزل.. أين أبوها ..وكان أبوها متوفيا.. فقال أين إخوانها ..وكان أحدهم معنا أيضا ..فقال اذهب معه..وانتظرنا هناك ثم قال للفقيه ولثلاثة من الرجال (انتم تعالوا معي والباقين يذهبوا إلى بيت السي حميد وينتظروننا هناك ..وأنتم أيها الصبية اذهبوا الى بيوتكم) كان الشيخ وهو يسأل ويعطي التعليمات يشعرك بمدى قوة هذا الرجل وثقته بنفسه ..أبطأنا المسير وكنا عازمين على اللحاق بهم لمعرفة ما يحدث ....

ما إن دخل الشيخ بيت الخالة حليمة حتى كنا هناك نرقب من الشباك ..وكان البيت من البيوت التي لم تصلها الكهرباء بعد والإضاءة عبارة عن لمبة في مدخل البيت وأخرى معلقة في عمود البيت.. دخل الشيخ والفقيه فقط ..والرجال كانوا معنا خارج المنزل وزوجها وأخوها كانوا مع الشيخ والفقيه في الداخل...رأينا الخالة حليمة جالسة على ركبتيها على الأرض ومغطاة بالكامل بإزار أبيض والهدوء يعم المكان ..فقال الشيخ محدثا الخالة ماذا بك يا أختي ..قالت لا شيء ..قال هل تشعرين بضيق في صدرك ..قالت لا ..قال هل تشعرين بألم في بطنك.. قالت لا ..قال هل تشعرين بألم في رأسك ..قالت لا.. قال هل..... وقبل أن يكمل قالت الخالة حليمة بصوت حازم قلت لك لا لماذا لا تفهم , فاقترب منها ودنى من أذنها وأخذ يقرأ القرآن بصوت مسموع ..وما هي الا لحظات واذا بالخالة حليمة بدأت تهتز تحت الإزار..وأتبعت هذه الهزة بهزات أقوى فقال الشيخ لأخوها وزوجها إمسكوها أمسكوا بها.. ثم بدأت تصرخ (دعوني دعوني لا سامحكم الله اشكوكم لله فهو حسبي ونعم الوكيل) ....

إمتلأنا رعبا وخوفا وأخذنا في البكاء ونحن نشاهد هذا الموقف.. واستمر الشيخ بالقراءة وارتفع صوت الآذان لصلاة العشاء ..وإذا بالخالة حليمة تلقي بأخيها وزوجها وتدفع الشيخ بيدها وترفع الإزار من فوقها وإذا بالدماء تسيل من وجهها ويديها وقدميها..حاولوا الإمساك بها ولكن دون جدوى ..صرخ الشيخ بالرجال في الخارج ليدخلوا للمساعدة ودخلوا ولكن الوضع خرج عن السيطرة كانت تدفعهم بعنف وغرست أظافرها في أجسادهم.. وسالت الدماء من بعض الرجال.. وفجأة جلست في زاوية المنزل وأخذت تضحك بصوت مرتفع ومخيف ثم وقفت مكانها و صرخت صرخة شقت ظلمة الليل وقالت بصوت مختلف ..صوت غلظ خشن (ألم أقل لكم سيعودون) ثم سقطت على الارض ...

تركوها مكانها وغطوها بالإزار وخرجوا ليتحدثوا خارج البيت ..ونحن نلتف حولهم..قال الشيخ لا تسألوني عن شيء لنذهب ونصلي العشاء ثم نتحدث..وطلب من زوجها البقاء بجانبها ولكنه رفض وقد ظهرت عليه علامات الخوف ..فبقي أخوها وانصرفنا جميعا إلى المسجد..

وفي طريقنا للمسجد....

يتبع....

ليست هناك تعليقات:

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

جميع الحقوق محفوظة لــ قصص رعب مغربية بالدارجة المغربية